لوحة للفنان: خالد خاني. |
فتحت عيني على
إثر الصوت المزعج. فكرت أنه ميعاد الدرس العملي، فعادة ما يُحدث تجمع الطلاب جلبة
وصخب. لكن الصوت كان قويًا بشكل غير مألوف. مددت ذراعي لألتقط الموبايل من على
المكتب المجاور للكنبة التي فردت جسدي عليها، وجدت الساعة السابعة والنصف صباحًا.
لم أنم سوى نصف ساعة فقط! يتبقى على موعد المحاضرة ساعة ونصف. رأسي ثقيل، ومفاصل
جسمي تتآكل بفعل الألم. أتممت أربعًا وعشرين ساعة مستيقظًا لأن العنابر مكتظة
بالمرضى هذه الأيام، ولا أعرف السبب. نباطشيتي ست وثلاثون ساعة. في العادي نستطيع
الحصول على قسط مناسب من الراحة مقارنةً بزملائنا في الأقسام الأخرى، لكن يبدو
أنها نباطشية ملعونة. جفني يتساقط لتنغلق عيني بتلقائية، لكن الصوت ما زال يتصاعد.
تحاملت على نفسي ونهضت، ارتديت البالطو الأبيض وخرجت من الغرفة وأحكمت إغلاقها
جيدًا. الغرفة هي مكتب الأستاذ الدكتور سعيد الأسواني، أكبر رأس في القسم، وأسطورة
الطب النفسي في المدينة، ومصر كلها. لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها إلا بعد الحصول
على موعد مسبق. لم أحاول لفت انتباه الدكتور سعيد إليّ؛ فأنا أعرف أنه لن يأتيني
من وراءه خير مطلقًا. اهتديت إلى حيلة منذ حوالي شهر واحد فقط، عندما نسى الأستاذ
مفاتيحه وذهب. لم يعود أو يبعث من يأخذها. بحثت عن مفتاح المكتب، أخرجته من
الميدالية وأسرعت إلى أقرب محل في شارع كفر عصام، استخرجت نسخة من المفتاح، وعدت.
وضعت المفتاح الأصلي في الميدالية وأعدتها لموضعها. في الصباح أتى الأستاذ وأخذ
مفاتيحه دون أن يلحظ شيئًا، ومن يومها، كلما أُتيح لي بعض الوقت، في المساء أو
الصباح الباكر، قبل أن تدب الحركة في المستشفي، أدلف إلى غرفة المكتب، أنام، أو
أُعد فنجان قهوة من بن العميد الذي لا أعرف من أين يحصل عليه الدكتور سعيد
باستمرار، أو أسحب كتابًا من كتبه التي تملأ الأرفف التي صنعها وراء مكتبه، وأقرأ.
مس رضوي، أقدم
ممرضة في القسم، سألتني أين كنت، قالت أن الحسيني الذي نزل في عنبر 12 رجال، ثار
وكاد أن يخنق المريض الذي يرافقه، أخبرتني بأنهم تمكنوا من السيطرة عليه بصعوبة
والآن سيخضع لجلسة علاج بالكهرباء. أومأت لها برأسي ومضيت. شعرت بثقل يفقدني قدرتي
على التوازن، وضِقت بكآبة المستشفى. خرجت. سرت بشارع الجيش، ودلفت إلى شارع
النادي. أخذت قهوتي في بن الفيومي. فجأة راودني خاطر؛ الحسيني ليس بغريب عليّ.
أعرف هذا الوجه. عندما التقت أعيننا أمس، لمّا جاءوا به إلى المستشفى مُكبلًا
بالقيود، رغم أنه كان في تلك اللحظة مستكينًا ومستسلمًا بالكامل، أحسست بنظرته
تخترقني. رغم أنه لم يبادل أحد النظر، ولم يتفوه بكلمة منذ جاء، لكنه نظر إليّ على
نحو غريب. نظرة كلها استجداء وعداء في نفس الآن. لم تدم لثوانٍ، لكنها لم تبارح
ذهني. طلبت ساندويتشات الإفطار المألوفة من أبو دشيش، طعمية ورومي مقلي، وجلست في مقهى
مجاور. فتحت الفيسبوك وكتبت: "الحب والحياة وجهان لعملة واحدة: الوهم".
رجعت للمستشفى قبل التاسعة.
كان الحسيني قد
عاد إلى العنبر، أثناء المرور وجدته غارقًا في النوم. أطلت النظر في وجهه، مع أني
أتعامل بلا مبالاة مع كل المرضى منذ مدة طويلة، فقدت شغفي تجاه العمل والوظيفة،
واستسلمت للروتين المفروض من أجل مسايرة الحياة. لوهلة، أحسست أن الحسيني يُشبهني.
ثمة شيء غامض اجتذبني نحوه، رغم أني لم أكن مسئولًا عن حالته. طلبت الملف الخاص به
من مس رضوى. وجدته فارغًا. أخبرتني مس رضوى بأن والدته حضرت منذ دقائق قليلة فقط.
استدعيتها إلى إحدى القاعات، وسألتها عن شكوى ابنها. كانت الحاجة فاطمة تغالب
دموعها وتحاول السيطرة عليها. ندبت حظها وحظ ابنها. طلبت منها أن تُعجل بالدخول في
تفاصيل الشكوى. قالت أن الحسيني اختفى تمامًا منذ ثلاث ليالي، وأنهم اعتادوا على
هذا الأمر. كل مرة يعود بنفسه، أو يجيء به أولاد الحلال الذين يستدلون علينا بعد
صعوبات. بالأمس ظهر عند مزلقان القطار في البلد. رآه الناس واقفًا في منتصف
القضبان، ثابتًا كخيال المآتة، تجمعوا حوله محاولين إبعاده عن القضبان، الحاج سعد
قال أنه هجم على عربة البطيخ الخاصة به، واستل سكينًا هدد به الموجودين، وفجأة،
حدق في وجه نور، بائعة الخضار، ونادى: "منار". وهجم عليها بالسكين. أحاط
به الناس وانتزعوا منه السكين بسرعة، كبلوه واستدعوا ابن عمه الذي اصطحبه إلى
المستشفى في الحال.
جاءت الدكتورة
فدوى المسئولة عن حالة الحسيني. تركتها مع الحاجة فاطمة وخرجت. لا يوجد شيء غريب
فيمّا حكته السيدة، سيناريو يتتكرر بين الحين والآخر مع مرضى الفصام باختلافات
بسيطة. ذهبت إلى العنبر، وجدت الحسيني جالسًا القرفصاء على السرير، يحدق في اللاشيء.
شعره كان مقصوصًا وهيئته جيدة مقارنة بالأمس، بادرته: "صباح الخير، أنت اسمك
إيه؟". لم يرد ولم ينظر باتجاهي. كررت السؤال، فهمس دون أن يلتفت إليّ بصوت
لم أتبينه، لكني خمنت من حركة الشفتين أنه نطق اسمه. حاولت إغراءه بالكلام ولم
أفلح. وجهه خالي من التعابير، كلما سألته عن شيء أجاب: "تعبان"، ثم عاد
إلى الصمت. أعترف بأن سنوات عملي بمستشفى الأمراض النفسية، والعيادات الخارجية، لم
تفلح في معالجة خوفي من الصموتين أصحاب النظرات الشاردة. يُخيل إليّ أنهم لا
ينظرون إلا باتجاه الموت. عندما هممت بالخروج التفت إليّ، وحدجني بذات النظرة التي
لا تغيب عن ذهني.
أكملت عملي
بنصف تركيز، ظل شبح الحسيني يراودني. لا أعرف مصدر ولا سبب الاهتمام المفاجئ الذي
أوليه إليه. تشبثت بذلك الاهتمام، لعله يقتنصني من الركود الذي سيطر على حياتي
مؤخرًا.
قبل المغرب،
دخلت مكتب الدكتور سعيد، أخذت كتابًا يتحدث عن الفصام، وقرأت نحو ساعة كاملة فيه.
فكرت بأن أعود إلى الحسيني. خرجت بهدوء وذهبت إليه. وجدته جالسًا بنفس الشكل.
ناديت عليه فنظر ليّ. اصطحبته إلى مكتب الدكتور سعيد، وأغلقت الباب من الداخل
كالعادة، لكنه تصرف جريء في حضرة هذا الكائن الصامت، الذي لا أضمن تحوله إلى كائن
مرعب في أية لحظة. عرضت عليه أن يشاركني شرب القهوة، لكنه رفض معللًا ذلك بأنه
زهقان. سألته: "من إيه؟"، فقال من "الحياة". توددت له، وعاودت
السؤال عن سبب تعبه. قال أنه لا يعرف، وأنني، بحكم كوني طبيبًا، يُفترض أن أكون
عالمًا بخبايا حالته، وإن لم أكن أعلم، فهذا يؤيد أنه غير مريض، هو فقط زهقان،
تعبان من الحياة، لا أكثر. سألته: "أنت روحت عند المزلقان ليه يا
حسيني؟"، قال وهو ما زال يتحاشى النظر في عيني: "هو اللي قالي".
"من؟". سكت. سألته إن كان يسمع أصواتًا تحدثه ولا يسمعها غيره، فأومأ
بالإيجاب. طلبت منه أن يخبرني بمحتوى الحديث الذي يدور بينهم. قال: "مش
عارف". سألته: "في حد بيأمرك تنتحر يا حسيني؟"، أجاب: "أيوة،
أبويا بيكلمني، قالي أقف قدام القطار". "طيب ومين منار؟". رمقني
بنظرة أشعرتني بالخوف، ولم يتكلم بعد ذلك. أعدته إلى العنبر، وألقيت عليه نظرة
أخيرة. ذهبت إلى مس رضوى، طلبت الملف مرة ثانية، من المؤكد أن الدكتورة فدوى قد
ملأته. عدت به إلى المكتب وصورته بالموبايل، ثم سلمته إلى مس رضوى، وغادرت إلى
منزلي بشارع سعيد مع انتهاء النباطشية.
...
تناولت محشي
ورق العنب الذي تعده أمي ليّ بعد النباطشيات، بالتبادل مع المكرونة بالبشاميل والسمك
المشوي. إشعارات الواتساب تظهر عدة رسائل من ياسمين، لا أهتم بقرائتها. وضعت
الموبايل على الشاحن ونمت. استيقظت بعد ساعتين فقط. أُنشد: أرقٌ على أرق ومثلي
يأرق. أصابني الأرق منذ عدة شهور، وإذا حظيت بوقت من النوم الممتد، تطاردني
الكوابيس فلا أهنأ ولا يرتاح جسدي. أعددت كوبًا من عصير الليمون، وخرجت إلى
البلكونة. فتحت اليوتيوب على اللاب توب، كتبت في صندوق البحث: "منير". شغلت
أول قائمة صادفتها، وطالعت رسائل الواتساب.
...
شبابيك..شبابيك..
الدنيا كلها شبابيك
والسهر
والحكاية والحواديت.. كلها دايرة عليك
...
ياسمين تسألني
إلى متى سيطول هذا الأمر، تقول أنها لم تعد تطيق علاقتنا بشكلها الحالي ولم تعد
تفهم شيئًا مما يحدث ولماذا يحدث. معها حق، أنا أيضًا لا أفهم شيئًا، الضباب يغلف
الرؤية ويعيق التفكير.
ياسمين هي
جنتي. حبنا مغروس في روحينا كجذور أشجار النخيل المتغلغلة في أعماق الأرض. لكن حتى
هذه الأشجار، تنهار في وقت من الأوقات.
تعرفت عليها في
درس اللغة العربية في الثانوية العامة. منذ عشر سنوات بالضبط. كان الأستاذ ينادي
أسماء الطلاب الذين حصلوا على الدرجة النهائية في الاختبار الذي أعده على نصف
المنهج. قال أنه لم يستحق تلك الدرجة سوى اثنان، كمال وياسمين. نادى علينا، وخرجنا
إلى جواره، أهدى كلانا شهادة تقدير، وكتاب أسئلة، ومبلغ مالي في ظرف. التقت عيني
مع ياسمين، وهويت في بئر بلا قرار. ابتلعتني عيناها. منذ اللحظة الأولى رجف قلبي. كنت
أحتقر حب الأفلام؛ الحب من أول نظره. لكنني وقعت فريسةً له. أتذكر أني عدت يومها
إلى البيت، أغلقت الحجرة، وشغلت شريط لمحرم فؤاد يغني: (رمش عينه). استلقيت على
السرير وأغمضت عينيّ وغنيت معه:
ليلة من ذات الليالي.. كنت خالي وقلبي خالي
السهر ماعرفش عيني.. والغرام ماجاش في بالي
فات عليّ الحلو الاسمر.. رمشه قالي حب واسهر
في الأيام
التالية لاحظت أنها تسترق النظر إليّ. أوقفتها ذات مرة في أحد الشوارع، اعترفت لها
بحبي على الطريقة الساذجة للمراهقين، وتبادلنا أرقام الهواتف، وأكملت مع فؤاد
الغنوة:
العيون السود خدوني.. بالمحبة عشموني
وببحور الشوق يا عيني.. غرقوني ودوبوني
صرنا نتبادل
المكالمات، نعد جدولًا مشتركًا للمذاكرة، وعندما ننتهي منه، نكافئ أنفسنا بمكالمة.
صوتها لم يكن يعرف التردد، واضحًا وشجاعًا، تسيل منه كل رقة العالم، كم تمنيت أن
أحتضن هذا الصوت، أو حتى ألمسه. أما عيناها السوداوان، فهما يحويان كل عذوبة
العالم، نقاء الماء في الأنهار، طهر مريم العذراء، حسن يوسف وبراءته، وتحدي الجنود
في المعارك. وكانت كلما نظرت إليّ، اخترقت نظراتها جسدي واستقرت في شغاف قلبي،
فانتفض بمفعول السحر، وحلق بقدرة الإلهام نحو السحاب، واعتلاه. هناك، ينفض عنه
غبار السنين والشقاء، ويمتلئ تحنانًا عليها. سألتها مرة: "بالله عليكِ يا
ياسمين، من أين لكِ كل هذا السحر؟".
ومضت الأيام
خفيفة، وظهرت نتيجة الثانوية العامة، ثم التحقنا سويًا بكلية الطب، وسار القدر إلى
جانبنا يبارك خطواتنا. كرهنا المنافسات التي تضج بها كليتنا، منافسات غير شريفة لا
تجعل الواحد يهنأ بحياته أبدًا، دائمًا يخوض صراع مع نفسه ومع الآخرين، كل
الآخرين، دون أن تكون له غاية واضحة نابعة من داخله هو. اتفقنا ألا ننشغل بغير
اللحظة الراهنة، نستنشق كل رحيقها، ونتلذذ بآخر قطرة عسل تنز منها. وهكذا، تحصلنا
على أكبر قدر من السعادة. تشاركنا كرهنا لبيئة العمل داخل الجامعة، ولتعامل
الأساتذة أصحاب السلطات مع كل من يخضع لنفوذهم، لكن القدر لم يسايرني تلك المرة،
والتحقت معيدًا بقسم الأمراض النفسية، أما ياسمين فصارت طبيبة نساء وتوليد.
عرفنا ولعنا
بالقراءة خلال تلك السنوات، وتشاركنا قراءة كتب عديدة، انفردت هي بقراءة الشعر،
تتذوقه، وتلقي عليّ قصيدة جديدة في كل لقاء لنا. كانت تحب رياض الصالح الحسين، ولا
تمل من ترديد أشعاره، كلما رأتني حزينًا، قالت: (غدًا من الممكن أن ننتحر، الآن
علينا أن نحب). وانفردت أنا بقراءة كتب في علم النفس والفلسفة، وحكيت لها ملخص تلك
الكتب. عندما دخلت البلد في نفق مظلم في السنوات الأخيرة، اعتراني السخط على كل
شيء، كفرت بالناس والسياسة والتغيير. مرةً قالت ليّ: "كمال، لماذا ترى العالم
مكانًا يستحق الكراهية؟ العالم غير مدين لنا بتلبية رغباتنا. من يتصور ذلك يجعل
نفسه مركزًا للكون، يُنمي داخله شعورًا بالأنانية وتضاخم الذات، لا ينشغل سوى
بذاته وسعادته الفردية. لا تكن كإنسان نيتشه. نحن عابرون يا كمال". تغلبني
دائمًا، ولا أجاريها في منطقها.
توسطت ليّ
ياسمين عند خالها، الدكتور يوسف، أستاذ الطب النفسي، كي أعمل معه مساعدًا في
عيادته الخاصة، أتدرب في المجال الذي أحبه، وفي نفس الوقت أحصل على مرتب يساعدني
على الادخار من أجل التقدم لخطبتها، وقد كان. خطبتها منذ تسعة أشهر.
...
والكلام كان،
كان عليك
واللي كان خايف
عليك
انتهى من بين
إيديك
دي عينيك،
شبابيك.. والدنيا كلها شبابيك
...
أغلقت الواتساب
دون أن أرد على ياسمين. فتحت صور ملف الحسيني، وأخذت أقرأ.
الحسيني محمود
الحسيني. 31 سنة. تقول أمه بأن الموضوع ابتدأ منذ سنتين ونصف. تذكر أن أباه كان
يعاني من "حالة نفسية"، صاحبته منذ ذهب والده، الحاج الحسيني الكبير،
ليخطب له بنتًا أحبها. فلما رآها الحاج الحسيني أعجبته، ولم يخرج من بيتها إلا وقد
خطبها لنفسه. جُن محمود. وصارت قطيعة بينه وبين والده. مضت السنوات وتزوج من
فاطمة، لكن "الحالة" لم تفارقه حتى مات. لم تذكر الحاجة فاطمة التوصيف
الطبي لتلك "الحالة". تستكمل حديثها وتقول أنه بعد وقوع الحادثة، اختفى
الحسيني شهرًا كاملًا، ثم عثروا عليه وأعادوه إلى البيت. صار لا يبارح البدروم
المظلم ليلًا ونهارًا. لا يتحدث مع أحد، وإذا خرج، يسير في الشوارع بلا هدف أو
مقصد، بلد تذهب به إلى أخرى، مرات يجيئ ومرات يغيب حتى يأتي به الناس الطيبون. لم
يعد يذهب إلى عمله، في مكتب المحاماة، ولا يأكل في البيت، يأتي بأكل فاسد من
الشوارع ويأكله. تفاجئت أمه بأنه أخذ مبلغًا ماليًا كانت تدخره لوقت
"عوزة"، واشترى به ثلاث هواتف مختلفة، وسماعات كبيرة، ومكنسة كهربائية! في
إحدى الليالي، استيقظت أخته أسراء في منتصف الليل على صوت عالي للأغاني المنبعثة
من السماعات. نزلت إليه وطلبت منه أن يخفض الصوت قليلًا، ثار. ضرب أخته وكسر
السماعات وتجمع الجيران على صوت الضجيج. تقول أمه أن أحد الناس قال لها ابنك
محسود، أو معمول له عمل. وأنه يعرف شيخ له كرامات، سيجلب له الشفاء بإذن الله. جاء
الشيخ وتلى آيات من القرآن ونصوص أخرى لا تعرفها الحاجة فاطمة. تحسنت حالة الحسيني
بعد ذلك، وكف عن ثوراته واختفائه المفاجئ لعدة أشهر. وكلما عاودته الحالة، جاءوا
له بالشيخ. نصحها ابن عمه بالذهاب إلى طبيب نفسي، لكنها رفضت معللةً ذلك بأنها لا
يساورها الشك في أن ابنها عاقل وسليم. تقول الحاجة فاطمة أنها سمعته كثيرًا يتكلم
مع أشخاص غير موجودين، وكلما سألته، قال أن أباه كان يزوره، وهو يحذره من تناول
الطعام في المنزل، لأنه مليء بالسم. تذكر الحاجة فاطمة أن أباه توفى منذ خمس سنين.
تسألها
الدكتورة فدوى عن كنه الحادثة التي أشارت إليها في بداية الحديث. تقول الأم: لكن
يا بنتي، لا تُخبري أحدًا بهذا الكلام. قبل سنتين ونصف، سافر الحسيني للقاهرة من
أجل عمله، ورجع بشكل مفاجئ، دخل بيته، فوجد زوجته منار مع إسماعيل، صديق عمره.
تقول أنه لم يفعل شيئًا. بُهت من هول الصدمة. وخرج ولم يعثروا عليه إلا بعد شهر.
تسألها الدكتورة فدوى إن كان هو من قص هذه الحكاية، فتؤكد الأم أنه هذا ما حدث
بالفعل، وأنه طلق منار بعد شهور من إلحاح أهله. وكان له منها وقتذاك أحمد، عنده
أربع سنوات، ودينا التي كانت تبلغ من العمر سنتين.
...
أحسست
بالسكاكين تنغرس في أعماق روحي. استيقظت مخالب ضميري التي تطاردني وأحاول الفرار
منها منذ شهور. الآن عرفت سر انجذابي للحسيني، وليتني ما عرفت. عُدت إلى الخواطر
التي تزعجني، وتذكرت كل شيء كما حدث بالتفصيل.
بعد خطبتي أنا
وياسمين بشهر واحد، وفي خضم سعادتنا بتتويج مسيرة عِقد شاهد على حبنا، جاءت داليا
إلى عيادة الدكتور يوسف. داليا في السنة الثانية في كلية الهندسة. ممشوقة القوام
وذات جمال يخطف الألباب. تفاحة مُغوية. لا أعرف كيف سارت الأمور على هذا النحو.
لكن بعد جلستين، قلت لها من الممكن أن أتابع حالتك بنفسي إذا لم تشعري بتحسن مع
الدكتور يوسف. فرق السن بينكما يمنعه من فهمك. وكأنها كانت تنتظر عرضي، وافقت على
الفور. حددنا ميعادًا لا يتواجد فيه الدكتور يوسف في العيادة. وتكررت اللقاءات. اشتكت
داليا من قسوة أهلها وتعاملهم الجاف معها، ومن صعوبة الدراسة، ومن أنها لا تجد من
يفهمها حقًا أو يحبها حتى سأمت كل شيء، ثم سعت إلى الاستشارة النفسية خشية أن تفكر
في الانتحار الذي ازدادت معدلاته في الآونة الأخيرة. أظهرت تعاطفي معها وأعلنت عنه
صراحةً، رغم أن هذا ضد قوانين العمل، وتوددت لها كثيرًا، فعلت ذلك تحت وطأة
جمالها، نسيت نفسي ونسيت ياسمين والدكتور يوسف، ونسيت قسم أبقراط الذي أقسمته ذات
يوم بصدق وإخلاص. ابتدأ الأمر عندما احتضنتها، وانتهى بقضم التفاحة التي أخرجتني
من جنتي، وعندما أفاقت من الصدمة التي شلت تفكيرها، هددتها بأنها لو تفوهت بكلمة
واحدة، ستجلب إلى نفسها الفضيحة، وستكون كذابة؛ إذ أنها مريضة، لا تعي ما تقول،
والدليل هو وجودها الآن في عيادة الأمراض النفسية. انتهى كل شيء بهدوء كما بدأ،
واختفت داليا.
ابتلعتني دوامة الخزي. انقطعت عن الذهاب للعيادة
بدون إبداء أسباب. واختفيت لعدة أيام. لكن الخزي استمر في ملاحقتي. كنت أردد على
نفسي طوال الوقت: "لماذا؟". فشلت في إيجاد إجابة مرات كثيرة، ووجدت
إجابات لم تقنعني في المرات الأخرى. طوال عشر سنوات، لم أنشغل ببنت غير ياسمين. لم
ألتفت لغيرها حتى أقاوم الأمر. كانت ياسمين بداية كل شيء ومنتهاه. لكن ما الذي
حدث؟ أي شيطان لعين موكل بحبنا، هل جعلني الشيطان أألف الحب حتى أمله؟ هل فقد الحب
لذته وحلاوته، فسارت النفس وراء لذة خبيثة وخسيسة؟ هل الحب محض حلم كاذب وخادع،
ككل شيء حولنا؟ وهل يكمن جوهر الجمال في كونه سرابًا؟ هل وهل وهل. شلال من الأسئلة
لا يتوقف. وعقلي يغرق ولا يقوى على التفكير. ازدريت نفسي واستحقرتها. كيف فعلت ما
فعلت، وأنا الطبيب المتفوق طوال مسيرته، عاشق الشعر والجمال؟ ملعون الجمال، كالحب،
والحياة. وملعونة تلك الطبيعة البشرية التي تعج بالتعاسة والتناقض.
امتلأ قلبي بمشاعر الخزي من نفسي، والشفقة على
ياسمين، يا ليتها تمس قلبي بأصابعها فتعيد خلاياه الميتة إلى الوجيب. لكنها لا
تستحق مخلوقًا تعسًا مثلي. على مدار الأشهر الثمانية المنقضية، عشت في عزلة تامة،
أحاول التطهر ممّا حدث، لكن الدنس اختلط بكل ذرة في كياني.
أشعر بأنني لم أطعن ياسمين وحدها، ولا داليا، بل
أنا من طعنت الحسيني نفسه. أتمنى أن أحظى بالنسيان، أنسى كل ما اقترفته يدايّ من
شرور وخير، وما بذله قلبي من حب وكره، لا أريد أن أطمح لشيء، أو أُعدل ما اعوج.
أريد أن أَنسى وأُنسى.
فتحت الواتساب، وكتبت إلى ياسمين: "أنا آسف، صدقيني، الأمر لا يتعلق بكِ، لا بُدّ أن نفترق". دخلت الغرفة، أطفأت النور، واستلقيت على السرير، ونمت.